جاري تحميل الصفحة
مدارس المهدي

قصص من وحي الشهادة

شباط 03, 2016 كتبه 
قيم الموضوع
(0 أصوات)

ثانويّة المهدي(عج)-بعلبك

سَاْجِدٌ لِرَبِّه

تأليف :زينب كمال رعد

3/21/2015

 

 

تدور أحداث القصّة حول امرأة اسمها"رحيل"عانت لتتزوّج من "أحمد"بسبب اختلاف طائفتها عنه،ثمّ ربّت ولدها "ساجد"على الإيمان والورع عكس ما اعتقده الجميع لكن سرعان ما تستشهد بفعل يد العدوّ الإسرائيلي و يقاسي طفلها غيابها   فتصطحبه إلى رحلة في غيبوبته مليئة بالغرائب وتبني منه سلاحًا للمجتمع على عدوّ واحد هو الإرهاب والتّكفير.                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                 

 

غفَت "رحيل"وفي يدها قصةٌ عن ريحانة المصطفى التّي لطالما عشق طفلها قصَّها له.غفت على سرير مدلَّلِهاالصغير "ساجد" وهو بقربها كالملاك الهادئ،لم يعتد النّوم دون صوت والدته وحكاياها الفريدة.وغدًا كانت قد وعدته بالقصّة التّالية الّتي أثارعنوانها فضوله "من أبواب الجنّة"فراح يسألها هل حقّا سيزور واحدًا من هذه الأبواب؟وهل حقّا ستروي له الطّريق السّرّيّ لهذا الباب الغامض؟

  على كلّ عتبة من بيوت الجيران كانت وشوشاتهم ونمّهم يغزو أزقّة الحيّ "ذاك المغفّل "أحمد"تزوّج امرأةً من السّنّة وابنتي الّتي عشقته حتّى العبادة،لم يكترث بها"وأخرى تأكل لحم أختها ميتًا باللّقلقة"اليوم هو سعيدٌ برحيل ابنة الحاج "خالد" لكن غدًا يرى تربيتها لابنه ساجد،لا فقه في الدّين، وبالكاد تفتح القرآن..." هكذا كنّ واحدة تحقد عليها لأنّ ابنتها أحقّ من السّنّة،وثانية لا تثق بإيمانها.لكنّ "رحيل"ضحّت من أجل إقناع والدها بقبول زواجها من "أحمد"فقد رأى خالد أنّه تحت عنوان(شيعي)والاختلاف الدّيني سيؤدّي إلى مشاكل جمّة لكنّ رحيل أصرّت حتّى رضي أباها.أمّا المشكلة الّتي لم ينتبه لها خالد والّتي هي أهمّ من أحمد،كانت عدوّنا "إسرائيل"ففي صباح يومٍ خريفيّ غصّ بحمرة سمائه ونعيق غرابه،رحلت إلى السّماء تاركةً "ساجد"فتًى في التّاسعة من عمره لم يرتو من حنانها وينابيع مودّتها المترقرقة.فقد أسرعت قنبلة العدوّ المزروعة لتُحرق قلب ساجد وتخطف منه أمًّا وُلد العطاء في عينيها ففازت بالشّهادة الكبرى. لم يقدر ساجد على استيعاب الأمر فكيف ترحل وهي صندوق العطاء، ضحّت بنفسها لتعلّمه وتربّيه وتلاعبه وتسلّيه،هي أفضل صديقة،وأجمل امرأة،وأحنّ والدة.وما أعظم مصيبة خالد وأحمد،الأب لم يلبث أن فرح بولادة حفيده ونموّه والآخر لم يشبع من عسل حياته حتّى أتى أمر الله وارتقى بالحبيبة نحو الجنان وأصبحت هناك صديقة أهلها بعيدًا عن أهل الأرض المفسدين فغيبة الجيران لم تنقطع إلّا بعد استشهادها، أمّا اعتقاداتهم فبقيت راسخة أنّها لم تربّي ابنها على الصراط. فما بالهم إن كانت هي لم تفعل فمن ذا الّذي فعل؟هل جزاء الإحسان إلّا الإحسان؟ورحيل كانت دائمًا يد المساعدة والكرم على الجيران،وكانت تمنع زوجها من إهانتهم عندما علم بكلامهم الحقير عنها فثار كالبركان. لكنّ الأيّام كفيلة بإثبات ما زرعته يداها وما سيثمر بعد استشهادها، ثمّ إنّ غيبةً وكرهًا تعشعش في قلوب الجيران أكبر دليل على طريقة تربيتهن ودرجة ورعهنّ هنّ لا غير.

مضت الأيّاموكبر "ساجد" حزينًا قد عانى الكثير من الآلام،فشهادة أمّه قد خلّفت فراغًا لايُنسى فلم يأتِ يوم ٌ إلّا ودموع ذكراه تتناثر على وجنتيه الّلتين اشتاقتا لقبلات رحيل الدّافئة.أمّا الآن وبعد مُضيّ عشرة أعوام من المتاعب والأزمات النّفسيّة عليه،استطاع بمساعدة أبيه الّذي يعمل طبيب أعصاب أن يتغلّب على أمراضه.فالأب المناضل "أحمد" صبّ كلّ اهتمامه في مُداواة نجله الوحيد ورفع معنويّاته والآن يرتاد كليّة الهندسة الّتي تفوّق فيها وتألّق.

    أمّا أصحاب ساجد فكُثر لكنّ المقرّبين منه هما "مصطفى"وابن خالته"علي"، ودائمًا يبذلان كلّ جهدهما ليؤنساه ويمضيان معظم الوقت برفقته.فغياب والده لمداواة المرضى وتركه وحيدًا يُؤثّرُ سلبًا على صحّته؛وكلّ يومٍ كان يقصّ لهما عن أمّه وطفولته معها فترانيم كلماتها جاثمة في أُذنيه ترافق قلبه أينما حلّ،أمّا تعاليمها وتوجيهاتها فكان لها الدّور الأبرز في استقامة حياته قليلًا.فعشر سنواتٍ دون نصحها وإرشادها كفيلةٌ بأن تحرفه عن دينه لكنّ جذور الإيمان الّتي زرعتها في شخصيّة طفلها حافظت بعض الشّيء على دينه وصواب طريقه. بقي ساجد متابعًا لتحصيله العلميّ كما وعد أمّه،محقّقًا أمنيتها بتفوّقه،يعبد الله ويتجنّب ما يغضبه لكنّه لا يعطي للتجهّد ما يستحقّه من الوقت، فكان إيمانه صائبًا مستقيمًا ولكن مع بعد العوائق والإهمال.

   ذات يوم كان ابن خالته علي يساعده على ترتيب غرفته كي لا يتأخّر عن المحاضرة في الجامعة، فكتاب الفيزياء قد ضاع بين الفوضى العارمة في غرفته.وبينما كان علي يبحث عن الكتاب وقعت عيناه على قصّة قديمة،فتحها متصفّحًا إيّاها ولكن ما لبث أن قرأ أوّل كلمةٍ حتّى انقضّ عليها ساجد وانتزعها من يديه ؛ فقال علي متعجّبًا:"ما بك يا رجل؟أقسم أنّي لن آكلها !".

فعبس ساجد وأجاب بعد تنهّد:"عذرًا يا أخي...ولكن سبق واتّخذت قرارًا بأن لن أقرأ هذه القصّة ماحييت،فأمّي هي من قد وعدني بقرائتها لي ولم تقدر على الوفاء...وأنا أحتفظ بها منذ ذلك اليوم المشؤوم."ثمّ غصّ بالدّمعة وجهش بالبكاء،نظر علي والصّمت قد رماه بسهم الألم محتارًا يرى شابًّا على مشارف الزّواج وروحه طفلٌ يبكي أمّه.ربّت على كتفه وقال له:"يا عزيزي لا تُدمي قلبها بدموعك،فوالله إنّ روحها لا تطيق أن ترى ثمرة فؤادها يتألّم."إلّا أنّ ساجد ما كان ليستجيب لكلمات صديقه فباعتقاده ليس بين الموت ويوم القيامة سوى الإنتظار على رغم محاولة أصدقائه إقناعه بوجود عالم البرزخ وانتقال الأرواح بعد الموت إلى هناك وأنّ الإعتقاد به جزءٌ لا يتجزّأ من كمال إيماننا.

    ثمّ إنّ برّ ساجد بوالدته بعد وفاتها كان بوصلة توفيقه في حياته وسببًا في رزق الله ورحمته الشّاملة.فتراه تارةً في مؤسّسة خيريّة يساعد الفقراء ويكفل الأيتام باسْمِها وتارةً في المقبرة يتلو القرآن على لحدها.كانت أمّه ملجأه في حياتها وبقيت ذلك بعد استشهادها،فانشغال والده بعمله المتواصل نهش معظم وقته ولم يعد هناك متّسع لحوار أوسع مع ابنه.كيف ذلك وهو يذهب ظهرًا إلى عيادته عندما يأتي ساجد من الكلّيّة،ويعود في منتصف الّيل عندما يكون ابنه غارقًا في النّوم.وكانت أيّام نهاية الأسبوع تجمع بينهما فيتشاركان الأحاديث ويتسامران،ثمّ ما يلبث ساجد أن يذهب إلى تدريبات بطولة كرة القدم.

    نعم امتزجت حياته بشفقٍ حزين هاجت به رياح الظّلم، ولكنّ بقعةً من الأمل بقيت ترسم بسمة "رحيل"مع مغيب كلّ شمس وبزوغها من جديد.راحت عواصف الحياة تقذف به من كلّ جانب،فبكاءٌ يوم،ونحيبٌ آخر،وتيّارٌ هنا،ومرضٌ هناك.وأسد الملاعب-كما سمّاه أصدقاؤه-لم يعد سوى وشاحٍ أبيض نُسج بالأسى ولوعة الفراق.أمّا أصدقاؤه فهمّهم الوحيد تعزيز إيمانه فبدونه لن يقوى على الصّمود،وحالته في تراجعٍ مستمرّ لن تنجيه منها غير صحوةٍ نحو نور ربّه.

   وفي أحد أيّام العطلة قرّر علي ومصطفى أخذه إلى قاعة في حيّهم لحضور جلسة دينيّة فهو كان قد هجرها منذ فترة ورأى أصحابه أنّه يجب من الآن وصاعدًا  المداومة على حضورها والاندماج بها.وبعد الكثير من الإلحاح وافق على الذّهاب متأفّفًا من ضيق الوقت،وهناك كانت الجلسة عن جوهر الرّوح ورحلاتها ابتداءً من الدّنيا وصولًا إلى البرزخ فإلى يوم القيامة.لم يلقى ذلك اهتمامًا لدى ساجد فبين الفينة والأخرى كان يلتفت إلى علي ويقول له :"أيريد أن يقنعني بيومَي قيامة؟".ثمّ يسأل:"البرزخ؟قل لي هل هناك قبل الميعاد في أصول ديننا كلمة"برزخ"؟! ".راح علي يضرب على جبهته بكفّه ويعضّ على شفتيه،ثمّ همس بحدّة:"أنت ستفلج رأسي يا بلاء،وماذا تفعل الأرواح بعد الموت؟تتنزّه؟! ألم تسمع قوله تعالى{ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون}."لكنّ ساجد كان يقول بعناد ودون تفكّر:"ربّما تعني شيئًا ثانيًا فليس بالضّرورة أن تكون حياة الموتى...".بعد انتهاء المحاضرة غادر الأصدقاء الثّلاثة إلى منازلهم، وفي الطّريق كان لسان علي لا يكلّ فلم يدع طريقة لرسم صورة حياة ما بعد الموت لساجد،ولكن سُدىً.

في صباح اليوم التّالي الّذي كان "الجمعة" ارتدى ساجد ثيابه وأحضر القرآن ثمّ أسرع إلى المقبرة وتلا بعض الآيات على قبر والدته المحفوف بالزهور.ثمّ بعد أن سمع آذان الظّهر أسرع بالذّهاب إلى المسجد للصلاة،وبينما كان يقطع الطّريق بعجل أحسّ بصوت تحطّمٍ سحقه وأبواق سيّاراتٍ غفى مع صوتها.أسرعت سيّارات الإسعاف لنقله إلى المشفى واجتمع النّاس باكتظاظ،وسادت الفوضى وعمّ صياح الرّجال والنّساء.لكنّ ساجد كان يضحك ثمّ يبكي ثمّ يضحك ثمّ يبكي،بعيدًا عن ذلك العالم رأى "رحيل" من بعيد ووجهها ما زال كالبدر ساعة اكتماله فكادت الفرحة تصعقه ثمّ شعر برغبةٍ عارمة لضمّها وتقبيلها فانهمرت دموعه كالأديم تزحف مرتعشة.وهو لا يدري أحلمٌ هذا أم يقظة،فصوت أمّه خرق قلبه وأسرحه في عالم الدّهشة،ولمسة يدها أصدق من الواقع،بل عطرها؟أيكذّب حاسّة شمّه وبصره وسمعه ولمسه ثمّ يصدّق المستحيل؟!لا،ترك أفكاره مع غبار النّسيان وضمّها ثمّ سجد مقبّلًا قدماها وقد امتزجت دموعه بدموعها أنسًا وحنانًا واشتياقًا لا يعرفه هوى الهوى ولا هُيام العشق ولا وجد الغرام. والأمّ تقبّل جبهته ثمّ تمسح دموعه وتبكي.

   ذابت كلماته على ثغره:"أمّي!..."فوضعت رحيل إصبعها على شفتيه وقالت له برقّة تملؤها الثّقة:"صه...دع عنك الآلام يا بنيّ ولْنمضي وقتًا حرمت فيه من حوَرعينيك السّوداوين".

قهقه ساجد بصوتٍ عالٍ وأغمض عينيه رافعًا رأسه نحو السّماء ثمّ قال:"آه،لا أصدّق وأخيرًا عدتي".عندها ابتسمت رحيل و قالت له:"لا يا عزيزي،بل أنت عدت".لم يدرك ولدها عمق كلماتها ولم يكترث لشيء فهمّه الوحيد حضنها الدّافئ وهدفه يديها الحريريّتين ومبتغاه هدوء عينيها وسكينتهما.

  هناك بدأت الرحلة على دربٍ ترابيّ وفي صمتٍ رهيب يكاد يُطبق القلب على صفحات الإنبهار.وبدأت رحيل بعباراتها الأولى :"أتسمح لي أن أكون مرشدتك السّياحيّة؟".أومأ ساجد برأسه مستغربًا ثمّ أصغى بانتباه.على نغمات صوتها أدرك كانّه سمع كلمة "برزخ" فلم ينبس ببنت شفة،وأكملت مصوّبةً إصبعها نحو بستانٍ يأخذ التّفكير إلى فسحات النّضرة والانتعاش وقالت:"أرأيت ذلك البستان والأشجار المثمرة؟ أنت قد زرعتها وأنا رويتها والآن تكبر باستمرار ومساحة بستانك تتّسع يا روحي،فما أعظم عطاءك للفقراء وأن أكون أنا شريكتك.ولكن احذر يا بني من أن تحرقه لأجل عملٍ سيّئ." كادت عينا ساجد تخرجان من وجهه استغرابًا؛فهو لا يذكر أنّه زرع نبتةً غير زهور قبر أمّه.ثمّ أكملت كلامها وأرته فرسًا بيضاء تذهب نصاعتها بالبصر،و أخبرته باحتراس:"إنّها لك ترعاها كلّ يوم وتطعمها،وستمتطيها في رحلتك إلى المقرّ".ثار ساجد مذعورًا محدّثًا أمّه علّها تطمئنه:"أمّي. ..أرجوكِ أكاد أجنّ أنا لا أدري وحقّك بما تقولينه!".حاولت رحيل تهدئته وأمرته بالتّروّي والصّبر فسرعان ما ستتضح له الأمور وتكشف خباياها.

-يا قرّة عيني أنت كلّ يوم تقرأ القرآن أليس كذلك؟

-بلى أقرؤه ولست أُطعم فرسًا.

-أحسنت الآن فهمت.

-ماذا؟!لا لم أفهم...ولكن ما هذه القصور لا تتوقّف عن التّعالي تزداد كبرًا كلّ لحظة، آه من يبنيها بهذه السّرعة والإرتفاع؟!

-هذا قولك سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر.

-هل يتجسّد هكذا؟

-بسم الله الرّحمن الرّحيم { اليوم تُجزى كلّ نفسٍ بما كسبت...}، نعم ألم تسمع قصّة الإسراء والمعراج عندما رأى الرّسول(ص) الملائكة تبني قصورًا للنّاس بحجر من فضّة وآخر من ذهب بسبب هذه الكلمة؟.

ثمّ قاطع حديثهما مجموعة من الشّبّان يحملون الأسلحة ويتبادلون النّكات فكان من الطّبيعيّ أن يسأل ساجد عنهم فأجابته أمّه:"هؤلاء رجال الله،هؤلاء من فُتحت لهم أبواب الجنّة وحفّتهم الملائكة".

-يا الله وهل يأتون بسلاحهم.

-نعم كما قد رحلوا وخلّفوا الدّنيا، بثيابهم وأحذيتهم وبما حملوه.

   وضع أولئك المجاهدون أسلحتهم جانبًا وبدأوا يلعبون بمياه النّهر المنسابة مع سبائك اللّجين فيرشّون بعضهم ويتراكضون كأطفال لا يعلمون سوى حياة البراءة والمتعة على أكفّ الرّخاء.

وقف ساجد يتأمّل محدّثًا نفسه،متمنّيًا لو كانوا أصدقاؤه ومقرّبين منه فغفا في سحرٍ قيّد قلبه إلى أن أصحته قطراتٌ مسكيّةٌ انهمرت على لحيته فتلألأت بسوادها تحت انبثاق خيوط النّور الخجولة،اعتذر أحد الإخوان منه على إزعاجه بالمياه الباردة فتعالت بسمة ساجد تكويها دمعةٌ ساخنة أدفأت خوف جوارحه؛فبادر بملاطفة ذلك الباسل وقال له:"لقد أنعشت روحي بارك الله بك".

  ثمّ شعر بلمسة باردة حول عنقه فأدرك يديّ أمّه تطوّقان رقبته بقلادة حُفر عليها بلونٍ أحمر قانئ رقمٌ ثلاثيّ بين ثلاثتيه واحد ؛ فسألها بلهفة:"أهو الوداع يا نور عيوني؟!".رقّ قلب رحيل فتمالكت أعصابها وقبضت على صبرها محتسبة، وانهارت كلماتها تبلسم تورّد أشفاره ولهيب مقلتيه:"بل إنّه اللّقاء الّذي سيجمعنا، و زينب الّتي أنت حماها".

  في المشفى كان رفاق ساجد يراقبونه من خلف الزجاج،يرقد بسلام في سريرٍ حمله كالعصفور الحزين.وهناك مصطفى يبكي وينحب كالأمّ الّتي ثكلت طفلها:"آه يا عمري ما أجملك في هذا السّرير كالبدر المنير،فليروِ الله تلك الشّفتين الأرجوانيّتين من معين الجنّة ؛انظر يا علي...آخ مرّثلاثة أيّام ولم يذق طعم الماء!".فيصيح علي حنقًا:"يا مصطفى ما بك تنوح كالنّساء،يرحمك الله اسكت فهو لم يمت بعد".ثمّ يحاول أستاذهم "باسم" تهدئة الوضع فيروي لهم بعض معجزات الأنبياء وأهل البيت، وحكاياهم الرّوحانيّة ليقطع مرور الوقت الّذي أضنى مهجتهم.

    ثمّ بعد انتهاء موعد الزيارات ورحيل الأصدقاء رفّ جفنا ساجد وأحسّ بصداع يمزّق جمجمته،حاول أن يتحسّس لحيته فشعر بقليلٍ من القطرات تدغدغه ثمّ أنزل إصبعه إلى عنقه ليستفيق على برودة القلادة فخفق قلبه وهو يتمتم:"يا زهراء..يا زهراء..يا زهراء..".إنّه الإدراك،فجأةً يصعقه بأن يُقرّ مذعنًا وفي ذهنه سلسلة متّصلة مغلقة لانهائيّة من إيمان ويقين أزاح عنه آلام جسده وهدّأ من هول مصيبته وتكسّر أضلاعه.

   بعدها سمع شهيق والده يغصّ بالدّمعة في حلقه فتخنقه بألمٍ صبّ في جسده من رأسه إلى أخمص قدميه.ولكن نظرة ساجد لوالده أدمت سنين عمره بجرعة من العواطف لم يشهدها منذ ولادته فها هو ابنه يولد من جديد ويستعيد صحّته.صاح مكبّرًا وضمّه برفق ثمّ نادى الأطبّاء ليتفقّدوه. لكنّ ساجد حقًّا قد وُلد من جديد،وهو الأعلم بذلك من باقي النّاس،فكيانه تغيّر ووجدانه بالثّبات تبرمج.

   مضت ثلاثة أشهر  تلقّى فيها ساجد كامل علاجه وانتقل من جديدٍ إلى منزله،وفي اللّحظة الأولى لوصوله سارع يريد أن يخبّئ القلادة في خزانته ولكنّه صُعق عندما لم يجدها حول عنقه فنظر نحو المرآة قائلًا:"لا تهمّني قلادة فالعنوان في قلبي باقٍ،لقد حفرته يا أمّي فشكرًا ترميه إليك كلّ عبارات الشّكر".وما كاد يصل إلى المنزل حتّى سمع الضّجيج يعمّ المكان فها هم الأصدقاء قد أتوا والأقارب والأحبّة يحتفلون بشفاء محبوبهم وكان والده قد أعدّ طاولةً تملؤها أصناف المأكولات فهمّ الجميع إليها يأكلون ويُطعمون ساجد،فهذا الّذي يضع في فمه تمرة وذاك الّذي يشربه ماءً فرمضان قد أتى وهذا بابه الأوّل قد فُتح مع أبواب الرّحمة الإلهيّة الّتي شملت الجميع ورحمت ساجد بلطف بارِئها.

  بعد اللّمّة والتّسامر رحل الجميع وذهب الوالد لينظّف الأطباق ويرتّب المنزل بينما ذهب ساجد يخلو بربّه،يناجيه ويدعوه،يتضرّع ويبتهل. وقد بقي كلّ يومٍ على هذه الحالة لا يُدرك بالمساء سوى العبادة والتّوجّه الكلّي نحو الله وجعل يدعو الجميع من فقراء حيّه وأصدقائه اليتامى إلى الإفطار في كل ليلة حبٍّا بأبي عبد الله (ع).وقد تكفّل بدعوة الجميع رجالًا ونساءً لإحياء ليالي القدر حيث كانت الضّيافة على عاتقه وكلّ المصاريف عليه،ثمّ بعد بزوغ الفجر والصّلاة في المسجد غادر المحيون إلى منازلهم وبقي ساجد وحيدًا يكنس المسجد ويرتّب الكتب بتنظيم.وعند السّاعة الثّامنة صباحًا عاد إلى المنزل مرهقًا ينتظره يومٌ طويلٌ من الصّيام فاستلقى على فراشه يرتاح من عناء العمل برضًا كامل عن عظمة أجره وثوابه.

    وعند آذان الظّهر،استيقظ للصلاة وتلاوة القرآن ثمّ أعدّ طعام الإفطار بينما كان والده قد ذهب للعمل.وبعد تناول الإفطار أدّى صلاته ثمّ ذهب في شرود وانتقال إلى عالمٍ آخر فلم يشعر إلّا بنور ربّه يضيء قلبه؛فخرّ ساجدًا سجودًا دام ساعات.في تلك الأثناء كان أصدقاؤه ينتظرونه لمباراةٍ مهمّة كانوا قد تدرّبوا عليها ولكنّه لم يُجب على هاتفه الّذي كان قد أطفأه ممّا اضطرّ علي إلى الذّهاب واصطحابه من منزله.

   وهناك وقبل أن يطرق الباب سمع صوت بكاءٍ مخنوقٍ بتلألؤ شمعةٍ خافت، فاقترب من النّافذة ليرى ساجد في مشهدٍ أربك أحاسيسه فلم يصدّق عينيه واستغرق متأمِّلًا بسرّ صامت، مؤنس، يُحلّق بالأشفار إلى شفافيّة الرّوح.وبينما علي سارحٌ وَ قلب ساجد رنّ هاتفه،كان مصطفى،فردّ عليه بحذرٍ من أن يشعر ساجد بوجوده فبادره مصطفى بالسّلام ثمّ قال:"يا عزيزي هل أصابك مكروه؟ذهبت لتحضر ساجد فاختفيت معه".

ردّ علي :"لا تقلق أنا بخير".

-إذا لماذا لم تأتِ ؟هل أخّرك ساجد؟أهو يلبس ثيابه؟

-لا لم أكلّمه بعد.

-ماذااا؟!هل جننت ؟المباراة على وشك أن تبدأ وأنت تنتزع روحي ببطءٍ مرير.

-يا أخي!إنّه منذ زمن وهو ساجدٌ لربّه...

ردّ مصطفى بالسّكوت والدّهشة الّتي قطعت نفسه؛فكم حلم بأن يتغيّر صديقه الّذي عانى ما عاناه ؛وكم تاق لأن يجدّد إيمانه ويروي ظمأه بمناجاة ربّه.

 ثمّ قال له:"افعل ما تراه مناسبًا،فموعده مع الله أهمّ من موعد المباراة".

   أدار علي ظهره ورحل دون إزعاج صديقه الّذي ترك حول سجدته بركةً من الدّموع النّازفة من قلبٍ تربّى على حبّ الله ورسوله،فأثمرت يدا رحيل حتّى بعد وفاتها ليكون ولدها كما أرادته ذخيرة المجتمع.

    ولكن بعد وصول علي إلى الملعب وإنهاء الشّوط الأوّل دون تسجيل أهداف طلّ عليهم أسدهم فانهاروا فوقه يقبّلونه ويحيّونه.لعب الجميع بجدّ واستعادت أرواحهم النّشاط برؤية ساجد الجديد وانتهى الشّوط الثّاني بهزيمة مزلزلة لخصمهم وتأهّلهم إلى الفوز بمنتخب بلدهم.فاحتفلوا رافعين صاحبهم على الأكتاف مهلهلين تمطر أفواههم بالضّحكات. وبدأوا بإغاظته:"ظننّاك قد تزوّجت ورحلت على بساط علاء الدّين،أو أنّ ماردًا قد حوّلك إلى بعوضة..هههه."فيستشيط ساجد غضبًا ويقول:"بعوضة يا رجل!كلّ هذا الطّول ولم تجد غيرها؟"أمّا علي فيرشّ على الجرح ملح ويقول:"الآن لم تعد تعجبك البعوضة يا ساجد..ألم تسمع قوله تعالى{إنّ الله لا يستحي أن يضرب مثلًا ما بعوضة فما فوقها فأمّا الّذين آمنوا فيعلمون أنّه الحقّ من ربّهم وأمّا الّذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا يضلّ به كثيرًا ويهدي به كثيرًا وما يضلّ به إلّا الفاسقين}".فقهقه الجميع لعودة ظلّ المرح وروح الطّرافة.

   بعد تلك الّليلة مرّت أيّام كثيرة ولم يسمع أحدٌ فيها خبرًا عن ساجد،وكان أصدقاؤه يقصدون منزله فيطرقون الباب إلى أن يستيقظ كلّ الحيّ ولكن لا أحد يجيبب.في تلك الأثناء كان هو "الكفيل"مع زخّات الرّصاص ودويّ السّهاد المرهقق،كان كتلةً مجبولة بالتّراب والبارود ورائحة العشق.هو ذاك العشق في السّاحات عند مقام الحوراء،لا صقيع،لا ثلوج،لا رمال،لا شموس ولا عواصف حديد تزعزعه؛إلّا الشّهادة،فتكون نصرًا بالدّماء وفتحًا بها.علّمته رحيل أن يكون سلاحًا على التّكفير الأعمى الّذي لا يميّز بين مسيحي أو سنّي أو شيعي،وهو يد الصّهاينة الّذين عملوا على تفرقتنا وسلبوا حياة العديد من الأمّهات والأبناء ومنهم ابنة خالد،والآن جاء دور صناعة رجال يقفون بوجههم ويمنعون زحف الإرهاب حملتهم أرحامٌ طاهرة وأنجبتهم أصلابٌ شامخة.ورحيل اليوم كما قال الخمينيّ إنّها كلّ المجتمع تربّي أجيالًا صالحة وتكون مثل الأمّهات المتكاتفات أمام عدوّ واحد مهما كانت دوائر الاختلاف واسعة فصناعة الرجال مهمّتهنّ ومحاربة العدى مهمّتهم.

   تلاطف الصّواريخ صيحاتٌ حسينيّة، وتؤنس الزّناد أكفًّ عبّاسيّة، وتناغي النّيران جمراتٌ افترشها الأبطال ثأرًا مستعرًا ومشوا عليها جنونًا عابسيًّا. وساجد لزينب قد أتى زحفًا فدائيًّا ناصرًا يزأر في السّاحات ويفني الأعداء راميًا رمياتٍ إلهيّة، أشهرٌ أمضاها كالعسل كان يصفها.

    وفي يومٍ كانت فيه المعركة في أوجّها استدعاء المجاهدون بعض المسعفين والأطبّاء إلى السّاحة لإسعاف عددٍ من الّذين سقطوا على تلك الأرض الطّاهرة.وكان علي من الحاضرين فهو متطوّعٌ مع الإسعافات يخدم المجاهدين الأشاوس،وهناك بعد إجراء العديد من الجراحات االقسريّة و مداواة الجرحى وحمل الشّهداء وصل علي إلى جسد مجاهدٍ آخر فتأكّد من نبضه وحاول إنعاشه لكنّ الشّهادة قد سبقته فكلّلت ذاك الجسد المتيّم بعشق الله أدار علي ذاك المجاهد ليدرك بأنّه ساجد فانهار وخرّ على ركبتيه جاثيًا وقد تلعثم من هول المفاجأة فبعد كلّ ذلك الغياب والهجران يلتقي بصديقه وقد أنهى رحلته عابرًا إلى حيث أراد،وهو لم يعرفه فوجهه كان جوريّة حمراء بلون النّجيع وجسده حقلٌ من الشّظايا والحديد.مسح علي "لحية" ساجد المخضّبة بقطرات الدّماء ثمّ شمّها وانحنى فوق وجهه المتبسّم للملائكة يبكي ويدعو ربّه بصوتٍ يهيّج الأحزان:"ربّاه كما أكرمته بالشّهادة فأكرمني بها واكحل عينيّ المحترقتين برؤية حبيبك محمّد وآله المظلومين".وقد كان لذلك الخبر وقعًا صاعقًا على جميع الرّفاق والأحبّة خصوصًا والده"أحمد"الّذي كُوي قلبه وتقطّع بالمصيبة الكبرى فاحتسب وبقي صابرًا متألّمًا راضيًا بقضاء الله مطمئنًّا لكون ولده في أيدٍ أمينة ومع من أحسن تربيته"رحيل".ثمّ بأمان الله شُيّع ساجدوزُفّ عريسًا بالورود والبخّور وخلف نعشه المنير وقف علي مع باقي الأصدقاء وخاطب روحه ونعشه باكيًا:"وداعًا يا صديقي...اليوم أكملت تلك القصّة بباب جنّتك".

 

علي والقنبلة

    فيما الأسْوَدُ يسحب بوهنٍ أطراف عباءته مغادرًا آخر تلّةٍ تمتدّ على خاصرة تلك البلدة السّوريّة، كان الأبيض الّذي فرش الأديم ببساطه قد بدا نشيطًا، يدقّ مسامير برده في الوجوه.  استفاقت عيون أولئك الشّباب على نداء الجهاد، فهبّوا للصّلاة قبل أن يذهبوا إلى مواقعهم.  ليس ثمّة أثرٍ أو صوت سوى حفيف الثّياب المرقّطة بنتف الثّلج.  انطلقوا بعتادهم الثّقيل ولم يخطر في بالهم أنّها قد تكون طريقًا قصيرة تؤدّي إلى مكان بعيد جدًّا، أبعد من الأفق الأرجوانيّ المخضّب بالمزن الرّماديّة الغاضبة.

    كان يخترق ذاك السّكون صوت رصاصٍ، فهناك من يترصّد تلك الحركات،  عيون فئرانٍ ما برحت مخابئها خوفًا   و ذعرًا من رجال الله.

    إذا أمعنت النّظر في حياة كلٍّ منهم، تجد الطّالب الجامعيّ الّذي يعشق الهندسة وكتبَها، وترى العاشق الّذي غادر حبيبته على أمل اللّقاء، وترى الأب الّذي ودّع زوجته وأولاده، فلكلّ واحد منهم حياة أخرى، وأهل وأحبّة، ولقد تعدّدت طوائفهم وجنسيّاتهم.  محمّد وعليّ اللّبنانيّان المسلمان وجورج المسيحيّ السّوريّ وأحمد العراقيّ وغيرهم ممّن وحّدتهم كلمة الحقّ ووحدة المسار والمصير، سلكوا خطًّا جهاديًّا مرصّعًا بلآلئ العزّة والكرامة. ..

    عليٌّ، ذلك الشّابّ اليافع، ترك مقعد دراسته وكتبَه وذهب إلى حيث الواجب.  غلى الدّم في عروقه، وثارت ثائرته، وهو يرى مرقد العقيلة وأنياب الإرهابيّين تتحيّن الفرص لنهشه، كيف يتجرّأونَ على التّفكير بإيذائه وهو يحتضن بضعة الزّهراء"ع"، الّتى ماتت ودفنت بعيدًا عن موطن أهليها؟ كانت دقّات قلبه تُسمع وكأنّها خبط المطارق، واضعًا نصب عينيه دحر كلّ طاغيةٍ أو إرهابيٍّ يفكّر في الوصول إليها، وكذا كلّ الشّباب الّذين كانوا برفقته.

    تقدّمت مجموعة عليّ نحو قائدها المتسمّر أمامها كاللّيث، نظر إليهم فردًا فردًا: منهم من خطّ الشّيب بعض سطور شعره الأسود ومنهم من كان في أوجّ الرّجولة، ومنهم من كان في ربيع العمر. خاطبهم بلغة الحسين(ع) في كربلاء" من أراد منكم العودة من حيث أتى فليعد، الطّريق مفتوحة أمامه".  إلّا أنّ العيون كانت تعبّر عن مدى تشبّثهم بخيارهم، لا عودة ولا خنوع، وأرض المقدّسات مدنّسة بأنجس الخلق، بأناسٍ لا يعرفون من الإسلام إلّا اسمه ومن القرآن إلّا رسمه.

     بماذا تراها كانت الأرض تشعر وهم يخطّون أقدامهم بين تضاريسها؟  و بماذا ضجّت السّماء و قد تصاعدت همساتهم إليها؟  و هل تراها تعلّمت الرّيح من أنفاسهم الأعاصير والقوّة ؟

     كانوا يتقدّمون وأنفاسهم الدّافئة تتصاعد لتلامس الأنوف الحمراء قبل أن تتلاشى باردة، و قد تحوّلت المنحدرات إلى منزلقات و غطّت الأرض في بعض الأماكن طبقات جليديّة، فأخذ الرّجال يتشبّثون بعتاد بعضهم البعض و يسحبون اقدامهم سحبًا، كان لهاثهم لا يعبأ بالتّعب و التّعب لا يأبه للحظة خدر وعيون جافت النّوم وأبحرت في لجّة الجهاد. ومن يغترف من ذا العتاد الثّقيل؟! ولكن لا بأس فيد إلهيّة تساعد في حمله و أذكار و صلوات تكسّر الجليد عن الشّفاه.

     علقت رجل عليّ وظنّ أنّ شيئًا من جسده قد تكسّر لثقل ما ينوء به، و لكنّه سرعان ما قام وأكمل الطّريق فلا وقت للألم. كانت قدمه تنغرس في الأرض، كأنّ حذاءه العسكريّ يبحث رغم سماكة الثّلوج عن دفء التّراب.   أحسّ بحركة خفيفة، وتناهى إلى مسمعه صوت يتسلّل من بين تلك الأشجار العارية فجرّب أن يتبيّن شخوصهم بين الضّباب الملتف إلّا أنّه لم يرَ شيئًا، ولم تقع عيناه على أثر لهم، فتابع ورفاقه الطّريق، والحذر واليقظة لا تبرحانهم البتّة.   

      كُشِف أمر المجموعة المتسلّلة، المهمّة الّتي أرادوا إنجازها وقعت في براثن الإرهاب، ماذا حصل ؟! أيّ مطر انهمرت زخّاته و لم يضرب البرق أفقًا، ولا زعق في المكان رعد.  هذه الأنياب الّتي برزت وتلك العيون المترصّدة، أرسلت جام غضبها على تلك المجموعة. فأصيب عليّ و سلاحه بيده و القنبلة تلازم قبضته، و جرح آخرون.

     كان عليّ رغم الجراح يتحيّن الفرصة للإيقاع بأكبر عدد ممكن من أولئك الكفرة، فانتظرهم ليفجّر نفسه فيهم.  كان أحمد على مقربة منه فطلب منه الزّحف إلى مكان بعيد ليصلبه الانتظار بمسامير التّرقّب. . دقائق تختزل العمر لتحقّق الحلم "الشهادة"...

    ذاب الثّلج عند ضفاف الدّم السّاخن، فأخذ يشقّ طريقه فوق الأبيض النّاصع بهدوء. ترى ماذا تنبت اليد إذا ما زرعت أناملها في أثلام الأرض، أم ذلك الدّم القاني، إذا ما امتصّه التّراب وسرى فيه؟

 

    كان عليّ يهمس للقنبلة الّتي أبت أن تغادر قبضته: " آن أوان قطافنا معًا، سيرجع هؤلاء قريبًا، وسنأخذ منهم كلّ مأخذ، سندوّي معًا. .."

    كان شريط الذّكريات والآمال يمرّ في خاطره، تلك الأم ّالطّيّبة الّتي كانت أنفاسها تدفّئه وعيناها تزرعان الحبّ والأمل في نفسه، و تلك الأخت الملتهب فؤادها لعودة سندها... و تلك الحبيبة المترقّبة قدوم محبوبها على أحرّ من الجمر. والكتب المستريحة على طاولته الخشبيّة تتوق لدفء راحتيه. أغمض عينيه الدّامعتين و نظر إلى الطّريق الّذي شقّ أمامه، إنّه طريق الجنان، فابتسم و قال :" إلهي ماذا وجد من فقدك؟  و ماذا فقد من وجدك ؟"، ثمّ فتحهما ورمق أحمد بطرفه، وأومأ إليه بالابتعاد، راسمًا على شفتيه الذّابلتين ابتسامة الوداع...

   سمعه أحمد يقول تلك الكلمات، وفهم مراده، وأدرك أنّ الشّهادة باتت قريبة من رفيقه، فأودع عنده سلامه على أهل البيت و راح يزحف حتّى ابتعد عن عليّ. ..

   تقدّمت مجموعة من الإرهابيّين منه لكي تسحب جسده، ظنًّا منهم بأنّه قد استشهد، ففجر نفسه فيهم، ونال مبتغاه.

   وبعد أن خمدت نار المعركة، عاد رفاق الجهاد إلى مكان العمليّة، فلم يجدوا جسدًا لعليّ، فقد تناثر و حلّقت روحه إلى الملكوت، فأسعفوا الجرحى ممّن بقي ليخبر بقصّة عليّ و القنبلة. ..

                                                         ريحانة عبدالله العوطة

                                                           السّادس الأساسيّ

                                            المهديّ(عج) بعلبكّ

معلومات إضافية

  • مصدر الخبر: بعلبك
  • الكاتب: ريحانة عبدالله العوطة
  • الشخصية الراعية: -
  • مكان النشاط: -
  • النوع: خبر
اخر تعديل الثلاثاء, 31 كانون2/يناير 2017 10:19 قراءة 20849 مرات

رأيك في الموضوع

تأكد من ادخال المعلومات في المناطق المشار إليها ب(*) . علامات HTML غير مسموحة

الرزنامة


نيسان 2024
الأحد الإثنين الثلاثاء الأربعاء الخميس الجمعة السبت
31 1 ٢٢ 2 ٢٣ 3 ٢٤ 4 ٢٥ 5 ٢٦ 6 ٢٧
7 ٢٨ 8 ٢٩ 9 ٣٠ 10 ٠١ 11 ٠٢ 12 ٠٣ 13 ٠٤
14 ٠٥ 15 ٠٦ 16 ٠٧ 17 ٠٨ 18 ٠٩ 19 ١٠ 20 ١١
21 ١٢ 22 ١٣ 23 ١٤ 24 ١٥ 25 ١٦ 26 ١٧ 27 ١٨
28 ١٩ 29 ٢٠ 30 ٢١ 1 2 3 4
لا أحداث

مواقع صديقة

Image Caption

جمعية المبرات الخيرية

Image Caption

مؤسسة امل التربوية

Image Caption

مدارس الامداد الخيرية الاسلامية

Image Caption

المركز الاسلامي للتوجيه و التعليم العالي

Image Caption

وزارة التربية والتعليم العالي

Image Caption

جمعية التعليم الديني الاسلامي

https://socialbarandgrill-il.com/ situs togel dentoto https://sabalansteel.com/ https://dentoto.cc/ https://dentoto.vip/ https://dentoto.live/ https://dentoto.link/ situs toto toto 4d dentoto omtogel http://jeniferseo.my.id/ https://seomex.org/ omtogel https://omtogel.site/